فصل: باب الْمُتَمَتِّعِ إذَا لَمْ يَصُمْ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.باب صَوْمِ التَّمَتُّعِ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ أَنَّهُ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمِ عَرَفَةَ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ: مِنْ حِينِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ إلَى يَوْمِ عَرَفَةَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَلَا يَصُومُهُنَّ حَتَّى يُحْرِمَ قَالَ عَطَاءٌ: يَصُومُهُنَّ فِي الْعَشْرِ حَلَالًا إنْ شَاءَ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ؛ وَقَالَا: لَا يَصُومُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَعْتَمِرَ قَالَ عَطَاءٌ: وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُهُنَّ إلَى الْعَشْرِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي عَسَى يَتَيَسَّرُ لَهُ الْهَدْيُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ لَا عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اسْتِحْبَابِنَا لِمَنْ لَا يَجِدُ الْمَاءَ تَأْخِيرَ التَّيَمُّمِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ إذَا رَجَا وُجُودَ الْمَاءِ.
وَقَوْلُ عَلِيٍّ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ يَدُلَّ عَلَى جَوَازِ صَوْمِهِنَّ فِي الْعَشْرِ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ ذَلِكَ؛ وَأَصْحَابُنَا يُجِيزُونَ صَوْمَهُنَّ بَعْدَ إحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ وَلَا يُجِيزُونَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ هُوَ سَبَبُ التَّمَتُّعِ، قَالَ اللَّهُ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ} فَمَتَى وُجِدَ السَّبَبُ جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِ الْوُجُوبِ، كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ لِوُجُودِ النِّصَابِ وَتَعْجِيلِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لِوُجُودِ الْجِرَاحَةِ.
وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِهِ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِهِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ، أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ وُجُوبَ الْهَدْيِ مُتَعَلِّقٌ بِوُجُوبِ تَمَامِ الْحَجِّ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ؛ لِأَنَّ قَبْلَ ذَلِكَ يَجُوزُ وُرُودِ الْفَسَادِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ الْهَدْيُ وَاجِبًا عَلَيْهِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَدْ جَازَ عِنْدَ الْجَمِيعِ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْإِحْرَامُ بِهِ مُوجِبًا لَهُ؛ إذْ كَانَ وُجُوبُهُ مُتَعَلِّقًا بِتَمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا، ثَبَتَ جَوَازُهُ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْعُمْرَةُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ إحْرَامِ الْحَجِّ وَإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ إذَا فَعَلَهُ بَعْدَ إحْرَامِ الْحَجِّ، إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ وُجُودِ سَبَبِهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ بَعْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتَ سَبَبَا لِلْجَوَازِ لَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ السَّبْعَةُ أَيْضًا لِوُجُودِ السَّبَبِ.
قِيلَ لَهُ: لَوْ لَزِمَنَا ذَلِكَ عَلَى قَوْلِنَا فِي جَوَازِهِ بَعْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لَلَزِمَكَ مِثْلُهُ فِي إجَازَتِكِ لَهُ بَعْدَ إحْرَامِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّكَ تُجِيزُ صَوْمَ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ إحْرَامِ الْحَجِّ وَلَا تُجِيزُ السَّبْعَةَ.
فَإِنْ قِيلِ: فَإِذَا كَانَ الصِّيَامُ بَدَلًا مِنْ الْهَدْيِ وَالْهَدْيُ لَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فَكَيْفَ جَازَ الصَّوْمُ؟ قِيلَ لَهُ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الصَّوْمِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ امْتِنَاعُ جَوَازِ ذَبْحِ الْهَدْيِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَحَدُهُمَا ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وَالْآخَرُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ، فَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِمَا بِالنَّظَرِ سَاقِطٌ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّوْمَ يَقَعُ مُرَاعًى مُنْتَظَرٌ بِهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: إتْمَامُ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَجِدَ الْهَدْيَ حَتَّى يُحِلَّ؛ فَإِذَا وُجِدَ الْمَعْنَيَانِ صَحَّ الصَّوْمُ عَنْ الْمُتْعَةِ، وَإِذَا عُدِمَ أَحَدُهُمَا بَطُلَ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ الْمُتْعَةِ وَصَارَ تَطَوُّعًا.
وَأَمَّا الْهَدْيُ فَقَدْ رُتِّبَ عَلَيْهِ أَفْعَالٌ أُخَرُ مِنْ حَلْقٍ وَقَضَاءِ التَّفَثِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ، فَلِذَلِكَ اُخْتُصَّ بِيَوْمِ النَّحْرِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْحَجِّ قِيلَ لَهُ: لَا يَخْلُو قَوْلُهُ: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} مِنْ أَحَدِ مَعَانٍ: إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ عُمْدَةٌ لِلْحَجِّ، وَمَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجًّا وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: «الْحَجُّ عَرَفَةَ».
أَوْ أَنْ يُرِيدَ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ أَوْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِعْلَ الْحَجِّ الَّذِي لَا يَصِحُّ إلَّا بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ بَعْدُ الزَّوَالِ وَيَسْتَحِيلُ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ فَبَطَلَ هَذَا الْوَجْهُ وَبَقِيَ مِنْ وُجُوهِ الِاحْتِمَالِ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ أَوْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ فِعْلِهِ بِوُجُودِ أَيِّهِمَا كَانَ لِمُطَابَقَتِهِ اللَّفْظَ فِي الْآيَةِ.
وَأَيْضًا قَوْلُهُ: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} مَعْلُومٌ أَنَّ جَوَازَهُ مُعَلَّقٌ بِوُجُودِ سَبَبِهِ لَا بِوُجُوبِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودًا عِنْدَ إحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ وَجَبَ أَنْ يُجْزِئَ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ خِلَافَ الْآيَةِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} لَا يَمْنَعُ جَوَازَ تَقْدِيمِهَا عَلَى الْقَتْلِ لِوُجُودِ الْجِرَاحَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» لَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ تَعْجِيلِهَا لِوُجُودِ سَبَبِهَا وَهُوَ النِّصَابُ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} غَيْرُ مَانِعٍ جَوَازَ تَعْجِيلِهِ لِأَجْلِ وُجُودِ سَبَبِهِ الَّذِي بِهِ جَازَ فِعْلُهُ فِي الْحَجِّ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمْ نَجِدْ بَدَلًا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِ الْمُبْدَلِ عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ الصَّوْمُ بَدَلًا مِنْ الْهَدْيِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى الْآيَةِ لِأَنَّ نَصَّ التَّنْزِيلِ قَدْ أَجَازَ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَيْضًا فَإِنَّا لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ الْبَدَلُ كُلُّهُ عَلَى وَقْتِ الْمُبْدَلِ عَنْهُ، وَهَاهُنَا إنَّمَا جَازَ تَقْدِيمُ بَعْضِ الصِّيَامِ عَلَى وَقْتِ الْهَدْيِ وَهُوَ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ، وَالسَّبْعَةِ الَّتِي مَعَهَا غَيْرُ جَائِزٍ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} فَإِنَّمَا أُجِيزَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مِقْدَارُ مَا يُحِلُّ بِهِ يَوْمَ النَّحْرِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّوْمَ لَمَّا كَانَ بَدَلًا مِنْ الْهَدْيِ وَهَدْيُ الْعُمْرَةِ يَصِحُّ إيجَابُهُ بَعْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ التَّمَتُّعِ فِي بَابِ الْمَنْعِ مِنْ الْإِحْلَالِ إلَى أَنْ يَذْبَحَهُ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ الصِّيَامُ بَدَلًا مِنْهُ مِنْ حَيْثُ صَحَّ هَدْيًا لِلْمُتْعَةِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ كَوْنِهِ عَنْ الْمُتْعَةِ أَنَّهُ مَتَى بَعَثَ بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ ثُمَّ خَرَجَ يُرِيدُ الْإِحْرَامَ أَنَّهُ يَصِيرُ مَحْرَمًا قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ بِالسَّوْقِ، فَكَذَلِكَ يَصِحُّ الصَّوْمُ بَدَلًا مِنْهُ إذَا لَمْ يَجِدْ.
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يَصِحُّ هَدْيًا قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَلَا يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي تِلْكَ الْحَالِ.
قِيلَ لَهُ قَبْلَ إحْرَامِ الْمُتْعَةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمُ الْمُتْعَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ فِي حُكْمِ الْإِحْرَامِ وَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ، فَلَمْ يَصِحَّ الصَّوْمُ مَعَهُ قَبْلَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، فَإِذَا أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ثَبَتَ لَهَا حُكْمُ الْهَدْيِ فِي مَنْعِهِ الْإِحْلَالَ، فَلِذَلِكَ جَازَ الصَّوْمُ فِي تِلْكَ الْحَالِ كَمَا صَحَّ هَدْيًا لِلْمُتْعَةِ.
وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الصَّوْمِ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ أَنَّ سُنَّةَ الْمُتَمَتِّعِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَبِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ حِينَ أَحَلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ بِعُمْرَةٍ، وَلَا يَكُونُ إلَّا وَقَدْ تَقَدَّمَ الصَّوْمُ قَبْلَ ذَلِكَ.

.باب الْمُتَمَتِّعِ إذَا لَمْ يَصُمْ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ وَلَمْ يَصُمْ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَقَالَ عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَطَاوُسٌ: لَا يُجْزِيهِ إلَّا الْهَدْيُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ: يَصُومُ أَيَّامَ مِنًى وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: يَصُومُ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السلام: «النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ» فِي أَخْبَارٍ مُتَوَاتِرَةٍ مُسْتَفِيضَةٍ، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَصُومَ هَذِهِ الْأَيَّامَ عَنْ غَيْرِ صَوْمِ الْمُتْعَةِ لَا مِنْ فَرْضٍ وَلَا مِنْ نَفْلٍ، فَلَمْ يَجُزْ صَوْمُهَا عَنْ الْمُتْعَةِ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ الْجَمِيعِ.
وَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ مِنْ أَيَّامِ الْحَجِّ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِيهِ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ أَيَّامَ مِنًى، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصُومَهُنَّ عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ لِقَوْلِهِ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَكَانَ الْحَظْرُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ قَاضِيًا عَلَى إطْلَاقِ الْآيَةِ مُوجِبًا لِتَخْصِيصِ الْقَضَاءِ فِي غَيْرِهَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمُ صَوْمِ التَّمَتُّعِ، وَأَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَيْضًا لَمَّا قَالَ: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وَلَمْ يَكُنْ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ فِي الْحَجِّ لِأَنَّ الْحَجَّ فَائِتٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصُومَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وَهَذِهِ مِنْ أَيَّامِ الْحَجِّ، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ صَوْمُهُنَّ فِيهَا.
قِيلَ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ قَاضٍ عَلَيْهِ وَمُخَصِّصٌ لَهُ كَمَا خَصَّ قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} نَهْيُهُ عَنْ صِيَامِ هَذِهِ الْأَيَّامِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ جَائِزًا لَا أَنَّهُ مِنْ أَيَّامِ الْحَجِّ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ أَجْوَزَ لِأَنَّهُ أَخَصُّ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ يَوْمَ عَرَفَةَ بِالْحَجِّ بِقَوْلِهِ: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» فَقَوْلُهُ: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ آخِرُهَا يَوْمَ عَرَفَةَ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ عَرَفَةَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ؛ وَقَدْ اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا يَصُومُ يَوْمَ النَّحْرِ مَعَ أَنَّهُ يَوْمُ الْحَجِّ، فَمَا لَمْ يُسَمَّ يَوْمُ الْحَجِّ مِنْ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيِّ عَنْ صَوْمُهَا أَحْرَى أَنْ لَا يَصُومَ فِيهَا؛ وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، إنَّمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ، وَهُوَ رَمْيُ الْجِمَارِ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ فِي ذَلِكَ، فَلَيْسَ هُوَ إذًا مِنْ أَيَّامِ الْحَجِّ، فَلَا يَكُونُ صَوْمُهَا صَوْمًا فِي الْحَجِّ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ فِي صَوْمِهَا بَعْدَ أَيَّامِ مِنًى، فَإِنَّ أَصْحَابَنَا لَمْ يُجِيزُوهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فَجَعَلَ أَصْلَ الْفَرْضِ هُوَ الْهَدْيَ وَنَقَلُهُ إلَى صَوْمٍ مُقَيَّدٍ بِصِفَةٍ وَقَدْ فَاتَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ هُوَ الْهَدْيَ، كَقَوْلِهِ: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} وَقَوْلُهُ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}، فَغَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُهَا عَنْ الْكَفَّارَةِ إلَّا عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَكْثَرُ مَا فِيهِ إيجَابُ فِعْلِهِ فِي وَقْتِ، فَلَا يُسْقِطُهُ فَوَاتُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} و{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وَقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْفُرُوضِ الْمَخْصُوصَةِ بِأَوْقَاتِهَا ثُمَّ لَمْ يَكُنْ فَوَاتُهَا مُسْقِطًا لَهَا.
فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ فَرْضٍ مَخْصُوصٍ بِوَقْتٍ فَإِنَّ فَوَاتَ الْوَقْتِ يُسْقِطُهُ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى فِي إيجَابِ فَرْضٍ آخَرَ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ فِي هَذَا الْوَقْتِ الثَّانِي هُوَ غَيْرُ الْمَفْرُوضِ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، وَلَوْلَا قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» لَمَا وَجَبَ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ إذَا فَاتَتْ عَنْ أَوْقَاتِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْلَا قَوْلُهُ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} لَمَا وَجَبَ قَضَاءُ صَوْمِ رَمَضَانَ بَعْدَ فَوَاتِهِ عَنْ وَقْتِهِ، وَلَمَّا كَانَ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ مَخْصُوصًا بِوَقْتٍ وَمَعْقُودًا بِصِفَةٍ وَهُوَ فِعْلُهُ فِي الْحَجِّ ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْهُ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ وَفِي الْوَقْتِ الْمَخْصُوصِ بِهِ لَمْ يَجُزْ إيجَابُ قَضَائِهِ وَإِقَامَةُ غَيْرِهِ مُقَامَهُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ صَوْمَ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ جُعِلَ بَدَلًا مِنْ الْهَدْيِ عِنْدَ عَدَمِهِ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُهُ بَدَلًا إلَّا عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَمَّا كَانَ بَدَلًا عَنْ الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نُقِيمَ غَيْرَ التُّرَابِ مُقَامَ التُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِهِ مِثْلِ الدَّقِيقِ وَالْأُشْنَانِ وَنَحْوِهِمَا؟ كَذَلِكَ لَمَّا جُعِلَ الصَّوْمُ بَدَلًا عَنْ الْهَدْيِ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ عَلَى صِفَةٍ، لَا يَجُوزُ أَنْ نُقِيمَ مَقَامَهُ صَوْمًا غَيْرَهُ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُكْمُ الصَّلَوَاتِ الْفَوَائِتِ؛ لِأَنَّا لَمْ نُقِمْ الْقَضَاءَ بَدَلًا مِنْهَا عِنْدَ عَدَمِهَا وَإِنَّمَا هِيَ فُرُوضٌ أَلْزَمَهَا عِنْدَ الْفَوَاتِ.
فَإِنْ قِيلَ شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى صَوْمَ الظِّهَارِ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَإِنْ مَسَّهَا لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْعِتْقِ، كَذَلِكَ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْحَجِّ فَإِنَّ فَوَاتَهُ فِيهِ لَا يُسْقِطُ وَلَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ إلَى الْهَدْيِ قِيلَ لَهُ: مِنْ قَبْلِ أَنَّ صَوْمَ الظِّهَارِ مَشْرُوطٌ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمَسِيسِ قَائِمٌ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، فَالصِّفَةُ الَّتِي عُلِّقَ بِهَا فِعْلُ الْبَدَلِ مَوْجُودَةٌ، فَلِذَلِكَ جَازَ، وَالْحَجُّ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ جَوَازُ الْبَدَلِ الَّذِي هُوَ الصَّوْمُ غَيْرُ مَوْجُودٌ لِأَنَّ الْحَجَّ قَدْ فَاتَ فَفَاتَ فِعْلُ الصَّوْمِ بِفَوَاتِهِ؛ وَأَيْضًا فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي سُقُوطَهُ بِوُجُودٍ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَلَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ مِنْ غَيْرِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِهِ لَمَا أَجَزْنَاهُ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُوجِبُ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ بَعْدَ الْمَسِيسِ، وَأَظُنُّهُ مَذْهَبَ طَاوُسٍ، وَلَكِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «نَهْيُ الْمُظَاهِرِ عَنْ الْجِمَاعِ بَعْدَ الْمَسِيسِ حَتَّى يُكَفِّرَ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ دَخَلَ فِي صَوْمِ الْمُتْعَةِ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا وَجَدَ الْهَدْيَ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّوْمِ أَوْ بَعْدَمَا صَامَ قَبْلَ أَنْ يُحِلَّ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ وَلَا يُجْزِيهِ غَيْرُهُ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إذَا دَخَلَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: إذَا صَامَ يَوْمًا ثُمَّ أَيْسَرَ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ، وَإِنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَيْسَرَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَلْيَصُمْ السَّبْعَةَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فَفَرْضُ الْهَدْيِ قَائِمٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُحِلَّ أَوْ يَمْضِي أَيَّامَ النَّحْرِ الَّتِي هِيَ مَسْنُونَةٌ لِلْحَلْقِ، فَمَتَى وَجَدَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ وَبَطَلَ صَوْمُهُ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْهَدْيَ مَشْرُوطٌ لِلْإِحْلَالِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحِلَّ قَبْلَ ذَبْحِ الْهَدْيِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فَمَتَى لَمْ يُحِلَّ حَتَّى وَجَدَ الْهَدْيَ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ فِي إيجَابِهِ الْهَدْيَ بَيْنَ حَالِهِ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّوْمِ وَبَعْدَهُ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ مَشْرُوطٌ لِلْإِحْلَالِ قَوْله تَعَالَى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} فَأَمَرَهُمْ بِقَضَاءِ التَّفَثِ بَعْدَ ذَبْحِ الْهَدْيِ؛ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُرَاعَى وُقُوعُ الْإِحْلَالِ، فَإِنْ صَامَ رَجُلٌ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ لَمْ يَنْتَقِضْ صَوْمُهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْهَدْيُ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ شُرِطَ الْهَدْيُ ثُمَّ نُقِلَ عِنْدَ عَدَمِهِ إلَى الْبَدَلِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالْعَارِي إذَا وَجَدَ ثَوْبًا، وَالْمُظَاهِرِ إذَا فَرَغَ مِنْ الصَّوْمِ ثُمَّ وَجَدَ الرَّقَبَةَ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَلَا يَنْتَقِضُ حُكْمُ الْمَفْعُولِ مِنْهُ.
وَأَمَّا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْنَا فَإِنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ مُرَاعًى، فَإِنْ تَمَّ وَفَرَغَ مِنْهُ فَقَدْ وَقَعَ مَوْقِعَ الْبَدَلِ وَأَجْزَى عَنْ أَصْلِ الْفَرْضِ، وَإِنْ وَجَدَ الْأَصْلَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِمَّا شُرِطَ لَهُ انْتَقَضَ حُكْمُهُ وَعَادَ إلَى أَصْلِ فَرْضِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ دُخُولَهُ فِي الصَّلَاةِ مُرَاعًى وَمُنْتَظَرٌ بِهَا آخِرُهَا لِأَنَّ مَا يُفْسِدُ آخِرُهَا يُفْسِدُ أَوَّلُهَا؟ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ التَّيَمُّمِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ مُنْتَظَرًا مُرَاعًى، وَكَذَلِكَ صَوْمُ الظِّهَارِ إذَا دَخَلَ فِيهِ فَهُوَ مُرَاعًى مُنْتَظَرٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ فِيهِ يَوْمًا انْتَقَضَ كُلُّهُ وَعَادَ إلَى أَصْلِ فَرْضِهِ؟ كَذَلِكَ إذَا وَجَدَ الرَّقَبَةَ وَهُوَ فِي الصَّوْمِ وَجَبَ أَنْ يَنْتَقِضَ صَوْمُهُ عَنْ الظِّهَارِ وَيَعُودَ إلَى أَصْلِ فَرْضِهِ، كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى وَجَدَ الْمَاءَ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ لِأَنَّهُ وَقَعَ مُرَاعًى عَلَى شَرِيطَةِ أَنْ لَا يَجِدَ الْمَاء حَتَّى يَقْضِيَ بِهِ الْفَرْضَ.
وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ أَنَّهُ إذَا ابْتَدَأَ بِصَوْمِ الظِّهَارِ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الرَّقَبَةِ لِصِحَّةِ الْجُزْءِ الْمَفْعُولِ، وَكَذَلِكَ الدَّاخِلُ فِي الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ لِهَذِهِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَ فِي صَوْمِ التَّمَتُّعِ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْهَدْيِ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الْمَفْعُولَ مِنْهُ قَدْ صَحَّ، وَفِي الْحُكْمِ بِصِحَّةِ ذَلِكَ إسْقَاطُ فَرْضِ الْأَصْلِ.
قَالَ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُتَيَمِّمُ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ التَّيَمُّمِ غَيْرُ مَفْرُوضٍ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مُرَاعًى، فَمَتَى وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ بَطَل تَيَمُّمُهُ، وَاَلَّذِي فِي عُرُوضِ التَّيَمُّمِ بَعْدَ الدُّخُولِ دُخُولُهُ فِي الصَّوْمِ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ شَدِيدُ الِاخْتِلَالِ ظَاهِرُ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَسْقُطْ بِدُخُولِهِ فِي صَوْمِ الْمُتْعَةِ وَلَا فِي صَوْمِ الظِّهَارِ وَلَا فِي الصَّلَاةِ، بَلْ دُخُولُهُ مُرَاعًى مَوْقُوفُ الْحُكْمِ عَلَى آخِرِهِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَتَى أَفْسَدَ بَاقِي الصَّلَاةِ فَسَدَ مَا قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا فَسَدَ بَاقِي صَوْمِ الظِّهَارِ فَسَدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ فِي صَوْمِ الْمُتْعَةِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ فِي أَوَّل يَوْمٍ مِنْهُ فَسَدَ؛ فَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلْهَدْيِ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ بِالِاتِّفَاقِ، فَقَوْلُهُ: لَمَّا حَكَمْنَا بِصِحَّةِ الْجُزْءِ الْمَفْعُولِ مِنْ الْبَدَلِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْأَصْلِ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَقَعْ بِصِحَّتِهِ، وَإِنَّمَا حُكْمُهُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَظِرًا بِهِ آخِرُهُ، فَإِنْ تَمَّ مَعَ عَدَمِ فَرْضِ الْأَصْلِ ثَبَتَ حُكْمُهُ، وَإِنْ وَجَدَ الْأَصْلَ قَبْلَ تَمَامِهِ بَطَلَ حُكْمُهُ وَعَادَ الْأَصْلُ إلَى فَرْضِهِ.
وَمِنْ حَيْثُ حُكِمَ لِلْمُتَيَمِّمِ بِحُكْمِ الِانْتِظَارِ إلَى أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْمَفْعُولَةَ بِهِ مُنْتَظَرٌ بِهَا الْفَرَاغُ مِنْهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُ فِي وُجُودِ الْمَاءِ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ وَبَعْدَهُ؛ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ صَوْمِ التَّمَتُّعِ وَصَوْمِ الظِّهَارِ وَنَحْوِهِ.
وَقَالُوا جَمِيعًا فِي الصَّغِيرَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا إذَا فَارَقَهَا زَوْجُهَا: إنَّ عِدَّتَهَا الشُّهُورُ وَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا عِنْدَ عَدَمِ الْحَيْضِ فِي وُجُوبِ انْتِظَارِ عِدَّةِ الطَّلَاقِ أَوْ بَعْدَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الشُّهُورِ فِي انْتِقَالِهَا إلَى الْحَيْضِ.
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْمَاسِحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا خَرَجَ وَقْتُ مَسْحِهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ قَبْلَهَا وَتَسَاوَى حُكْمُ الْحَالَيْنِ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ فِي مَنْعِ الصَّلَاةِ وَلُزُومِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ إذَا زَالَتْ اسْتِحَاضَتُهَا وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ قَبْلَ دُخُولِهَا فِيهَا فِي اسْتِوَاءِ حُكْمِ الْحَالَيْنِ فِي بَابِ الْمَنْعِ مِنْهَا إلَّا بَعْدَ تَجْدِيدِ الطَّهَارَةِ لَهَا.
وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا، كَانَتْ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ الْمَوْتِ، قَالَ: فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ تَحْتَهُ أَمَةٌ وَطَلَّقَهَا كَانَتْ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْأَمَةِ، فَإِنْ عَتَقَتْ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَمْ تَنْتَقِلْ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ الْحُرَّةِ وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ هُنَاكَ شَيْءٌ يَجِبُ بِهِ عِدَّةٌ كَمَا حَدَثَ الْمَوْتُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْعِدَّةِ وَيَلْزَمُهُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا تَنْتَقِلَ عِدَّةُ الصَّغِيرَةِ إذَا حَاضَتْ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ مَا يُوجِبُ الْعِدَّةَ وَهُوَ وُجُودُ الْحَيْضِ كَمَا لَا يَجِبُ الْعِتْقُ كَمَا اقْتَضَاهُ اعْتِلَالُهُ.
قَوْله تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: إنْ شَاءَ صَامَهُنَّ بِمَكَّةَ وَإِنْ شَاءَ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ قَالَ: إنْ شَاءَ صَامَ فِي الطَّرِيقِ وَإِنْ شَاءَ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالشَّعْبِيُّ: يَصُومُهُنَّ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ.
وقَوْله تَعَالَى: {إذَا رَجَعْتُمْ} مُحْتَمِلٌ لِلرُّجُوعِ مِنْ مِنًى وَلِلرُّجُوعِ إلَى أَهْلِهِ، فَهُوَ عَلَى أَوَّلِ الرُّجُوعَيْنِ وَهُوَ الرُّجُوعُ مِنْ مِنًى.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ حَظَرَ صِيَامَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَأَبَاحَ السَّبْعَةَ بَعْدَ الرُّجُوعِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْوَقْتَ الَّذِي أَبَاحَ فِيهِ الصَّوْمَ بَعْدَ حَظْرِهِ وَهُوَ انْقِضَاءُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ: مِنْهَا: أَنَّهَا كَامِلَةٌ فِي قِيَامِهَا مُقَامَ الْهَدْيِ فِيمَا يُسْتَحَقُّ مِنْ الثَّوَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ قَدْ قَامَتْ مُقَامَ الْهَدْيِ فِي بَابِ جَوَازِ الْإِحْلَالِ بِهَا يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ صِيَامِ السَّبْعَةِ، فَكَانَ جَائِزًا أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الثَّلَاثَةَ قَدْ قَامَتْ مُقَامَ الْهَدْيِ فِي بَابِ اسْتِكْمَالِ الثَّوَابِ، فَأَعْلَمَنَا اللَّهُ أَنَّ الْعَشَرَةَ بِكَمَالِهَا هِيَ الْقَائِمَةُ مُقَامَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ ثَوَابِهِ وَأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَعَلَّقَ بِالثَّلَاثَةِ فِي جَوَازِ الْإِحْلَالِ بِهَا؛ وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ فِي الْحَثِّ عَلَى فِعْلِ السَّبْعَةِ وَالْأَمْرُ بِتَعْجِيلِهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ لِاسْتِكْمَالِ ثَوَابِ الْهَدْيِ.
وَقِيلَ فِيهِ: إنَّهُ أَزَالَ احْتِمَالَ التَّخْيِيرِ وَأَنْ تَكُونَ الواو فِيهِ بِمَعْنَى أو إذْ كَانَتْ الواو قَدْ تَكُونُ فِي مَعْنَى أو فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَأَزَالَ هَذَا الِاحْتِمَالَ بِقَوْلِهِ: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} وَقِيلَ: الْمَعْنَى تَأْكِيدُهُ فِي نَفْسِ الْمُخَاطَبِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى انْقِطَاعِ التَّفْصِيلِ فِي الْعَدَدِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
ثَلَاثٌ وَاثْنَتَيْنِ فَهُنَّ خَمْسٌ ** وَسَادِسَةٌ تَمِيلُ إلَى شِمَامِ

وَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ هَذَا أَحَدَ أَقْسَامِ الْبَيَانِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ الْبَيَانِ الْأَوَّلِ؛ وَلَمْ يَجْعَلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ لِأَنَّ قَوْلَهُ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعَةٌ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى الْبَيَانِ وَلَا إشْكَالَ عَلَى أَحَدٍ فِيهِ، فَجَاعِلُهُ مِنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ مُغَفَّلٌ فِي قَوْلِهِ.
قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مَا هِيَ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ: «أَنَّهَا شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ» وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّهَا شَوَّالُ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ».
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ.
وَقَالَ قَائِلُونَ: وَجَائِزٌ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مُرَادُ مَنْ قَالَ وَذُو الْحِجَّةِ أَنَّهُ بَعْضُهُ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا مَحَالَةَ إنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِ الْأَشْهُرِ لَا فِي جَمِيعِهَا لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ يَبْقَى بَعْدَ أَيَّامِ مِنًى شَيْءٌ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ.
وَقَالُوا: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى ذِي الْحِجَّةِ كُلِّهِ مُرَادُهُ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ أَشْهُرَ الْحَجِّ كَانَ الِاخْتِيَارُ عِنْدَهُ فِعْلَ الْعُمْرَةِ فِي غَيْرِهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ اسْتِحْبَابُهُمْ لِفِعْلِ الْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ عَلَى مَا قَدَّمْنَا.
وَحَكَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ شَوَّالُ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَحَجُّهُ فَائِتٌ.
وَلَا تَنَازُعَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي تَجْوِيزِ إرَادَةِ الشَّهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ، بِقَوْلِهِ: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ» وَإِنَّمَا هِيَ يَوْمَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ وَيَقُولُونَ: حَجَجْتُ عَامَ كَذَا وَإِنَّمَا الْحَجُّ فِي بَعْضِهِ، وَلَقِيتُ فُلَانًا سَنَةَ كَذَا وَإِنَّمَا كَانَ لِقَاؤُهُ فِي بَعْضِهَا، وكَلَّمْتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْمُرَادُ الْبَعْضُ وَذَلِكَ مِنْ مَفْهُومِ الْخِطَابِ إذَا تَعَذَّرَ اسْتِغْرَاقُ الْفِعْلِ لِلْوَقْتِ كَانَ الْمَعْقُولُ مِنْهُ الْبَعْضَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهَا شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ شَائِعٌ مُسْتَقِيمٌ، وَهُوَ يَنْتَظِمُ الْقَوْلَيْنِ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَعْنَى الْأَشْهُرِ الْمَعْلُومَاتِ؛ وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ كَانُوا يَنْسِئُونَ الشُّهُورَ فَيَجْعَلُونَ صَفَرًا الْمُحَرَّمَ وَيَسْتَحِلُّونَ الْمُحَرَّمَ عَلَى حَسْبَمَا يَتَّفِقُ لَهُمْ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُرِيدُونَ فِيهَا الْقِتَالَ، فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى النَّسِيءَ وَأَقَرَّ وَقْتَ الْحَجَّ عَلَى مَا كَانَ ابْتِدَاؤُهُ عَلَيْهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَا إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ».
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} يَعْنِي بِهَا هَذِهِ الْأَشْهُرَ الَّتِي ثَبَتَ وَقْتُ الْحَجِّ فِيهَا دُونَ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَيْهِ مِنْ تَبْدِيلِ الشُّهُورِ وَتَأْخِيرِ الْحَجِّ وَتَقْدِيمِهِ.
وَقَدْ كَانْ وَقْتُ الْحَجِّ مُعَلَّقًا عِنْدَهُمْ بِأَشْهُرِ الْحَجِّ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الَّتِي يَأْمَنُونَ فِيهَا وَارِدَيْنِ وَصَادِرِينَ، فَذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَشْهُرَ وَأَخْبَرَنَا بِاسْتِقْرَارِ أَمْرِ الْحَجِّ وَحَظَرَ بِذَلِكَ تَغْيِيرُهَا وَتَبْدِيلُهَا إلَى غَيْرِهَا.
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَرَخَّصَ فِيهِ وَأَبْطَلَ بِهِ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْتَقِدُهُ مِنْ حَظْرِ الْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، قَالَ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فَأَفَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَشْهُرَ الَّتِي يَصِحُّ فِيهَا التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَثَبَتَ حُكْمُهُ فِيهَا هَذِهِ الْأَشْهُرُ، وَأَنَّ مَنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِهَا ثُمَّ حَجَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمُ التَّمَتُّعِ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.